الخميس، ٤ رجب ١٤٤٤ هـ

بَابَا كُوسْتَا

 

 

الليلُ في هذا المطعمِ العتيق

مفتوحٌ على أشرِعة الرِّيح

لا يعرَفُ الأبواب الخجولة الخُطَى

يطيرُ مع أسرابِ العصافيرِ حتى نهاياتِ البَّهجة الزرقاء

ويفرشُ مائدةَ الكونِ على سحرِ السماوات.

 

الليلُ في هذا المطعم النبيل

لا يُشبهُ الأمسيات في شوارع الخرطوم

ولا مُسامرات الليل التي أنْهَكَتها عذاباتُ المُحبين 

ولا ضجيج العابرين في الصالاتِ المصنوعة من ورقِ الأحلام

بلْ يُشبه الخرطوم في أمجادها الشهيَّة

يُشبه المدينة في ليلِ السَّماوات الصافية

يُشبه المطاعم في مدنِ الأساطير

يُشْبه بابا كوستا في كلِّ العُصور

سابِحاً من شارع الجمهورية حتى ينام على تُخومِ سان جيمس.

 

بابا كوستا

بيتٌ من التاريخ

مسكونٌ بروائحِ العطرِ القديم

وامرأةٌ تُديرُ البيتَ مثلَ كاهنةٍ عمَّدَتها الأساطير

على الزَّوايا والمَمَرات

أنوارٌ مُشَبَّعةٌ بروحِ المكان

وعلى الفناء الواسع مسرحٌ للفنون

وفرقة ماجيك ستار الموسيقية

شبابٌ كَوَرْدِ الخريف

كنهر دَفَقَتْهُ البحيراتُ إلى نهاياتِ الموج

أنغامٌ وموسيقى

وجازٌ يطربُ الليل على نخب الكؤوس .

وبناتٌ ساحراتٌ كُنَّ معي

يفْتَحْنَ شباكَ الوردةِ قُبْلةً .. قُبْلةً على صوتِ الكَّمان

وعلى الجدران

ألوانٌ فاقعةٌ

دوَّنَتْ تفاصيلَها أناملُ الرَّسامين .

 

هنالكَ على الحائطِ الشرقي

نشيدٌ من جبال الإنقسنا

ينحدر كشلَّالاتِ الحريَّة

وفتاةٌ عاريةٌ تسْقِي بُذُورَ العشبِ أفراحَ المطر

تفتحُ الأبوابَ

دوائرَ من عُيُونِ الكون

وعلى الغرفة المجاورة

خلفَ الصالة الصغيرة

لوحات وجداريات

وبورتريهات عن يوميات الحياةِ في باطنِ الخرطوم

وفتاةٌ مشاغبةٌ تُثرثِرُ على هاتفها

تحكي عن سهرةٍ سابقةٍ في شارعِ النيل

وأنا في ركنٍ قَصِيٍّ

والليل يبحرُ نحو بدايات الصباح

شربتُ كأساً واحدةً من يدِها السّمراء

فترنحتُ على هضابِ الليل ألوِّن الشوارعَ بالذكريات.

                                                         

 نصار الصادق الحاج

مارس 2012

النيلُ يعشقُ القمر وأنا في الأدغالِ أُفتشُ عن مرفأ

 

 

يا قمر

النيلُ يفتحُ شُرْفَتَهُ لشعاعٍ يهطلُ منكِ

لضوءٍ ربَّتهُ يداكِ على جمرِ المسافاتِ

وعلى نارٍ ناوشَتْها الريح

طَارَتْ شرارتُ أحجارِهِ سعيراً أيقَظَتْهُ الخياناتُ العابرة.

 

أيها القمر

بعد قليل

عندما تخرجُ الشمسُ

وتطلُّ على شرفات النافذة

سيرحل الغريب

سيمضي إلى الصحراء

التي صنعَ النيلُ على رمالِها أسطورةَ الماء.

 

هي القمر

وهي عاشقةُ النيل

حدَّثتني عن عشقِها الخالد منذ آلاف السنين

قالت بصوتٍ والغٍ في الأنوثةِ والدلال

أن بحرَ الحب داهمها منذ أن جرَفَ النهرُ أعشابها

ومضتْ في الماءِ تُمدِّدُ ساقيها

تنزل من أدغالها قطراتُ النَّدى

وهي تواقعُ النهرَ باللَّذةِ ذاتها لجنون الموج.

 

منذ آلاف السنين

هي نفسُها البنت التي أيقَظَتِ الروحَ من خُذْلانِها

وعانقت الموج على ضفاف نهرِ النيل .

 

تداعي المارد من أقواس الجن

وصافَحَها مثل نداءٍ أطلقهُ الطمي

وضوء القمر  الفاضح

فتمدَّدَ داخلها

يمنحها اللذة حين تُنَاجِيهِ تحت صراخ الشهوة بين سكاكين الليل،

 

 

ظلَّت أعواماً تتقاسمُ ليل الشهوات

برفقة أحلامٍ صنَعَتْهَا من ورد غوايتها.

 

هربت من زمنٍ

نَبَذتهُ آلهة اللذة منذ قرونٍ نائيةٍ

ذهبت تفتح أكوان الريح

وماء النيل

تصعد أعلى قاراتِ الضوء

لذاكَ القمر المتحرِّك بين أصابعها

حين تُشاغبُ وردَتَها

تخلع سروال الحشمة ترميهِ خلف ستار العتمة.

 

كانت تجلس في غُرفتها رفقة عشاق من صُنْعِ أُلُوهتِها

تختار مكائدَها معهم

وتُناديهم

تشرق روح الأنثى فوق تلال محبَّتهم

وتغادرُ حيث الكون يراقص موج الحريةِ .

 

طرقتُ البابَ  بنهرِ الصُّحبة

مَخْفيَّاً بين تراب العشق

ونورِ القلب

جاءتني بجموحِ النيل

وضوءِ القمر الفاسقِ في بهجتهِ

يتبعها صوت الموج المارد خلف موسيقى السَّحَرَة

 

كان يغازلها العشاق كثيراً بحكاياتٍ معطوبة

لكنَّ كمائِنَهَا  كانت تحرقهم .

 

 

جئتُ إليها

مدفوعاً بمفاتيح الروح

وغرائبَ لا أعرفها

لكني أعرف قمراً أحببتُ رهانات الضوء تسيلُ كأمواج النيل على عتبات مدائنهِ.

 

قالت

حسناً سأضئ البابَ لمقدمِك الزَّاهي القسمات

وأرمي كل جماجم عشاقي المفتونين بأقماري

أرميهم لمياه النيلِ الأزرق

قرباناً يمنحك الحظوة إنساناً يدخل محرابي

يعزف لذته في جسدي الغائب أعواماً لم يمْسَسْهُ بشرٌ تصفو الرعشة بين مكائده الزرقاء

 

ومثلكَ يا مجنوني قالت

أعرف أنك معشوقي الأحلى

نيلٌ بشريٌ

صَنَعَتْهُ دمائي من نهر النيل

وأعرف أنِّي مجنونتك الأحلى

لسنينٍ قادمةٍ ستردِّدُ وحدَكَ أني غانية الشبق الضوئي.

 

امرأةٌ  

صنعتْ وردَتَها من نهر النيل وضوء القمر الأزرق

أنثى أحلى من كل نساء الكون

ومن آلهةٍ كنَّ يُقدِسنَ الحبَّ

ويرسمنَ جداريات العشق على أحجار التاريخ.

 

نصار الصادق الحاج

 أبريل 2011     

الليل


 

هُوَ الليلُ

هو الشُّرفةُ السمراء

هو الحدائقُ التي تتورَّدُ مقاعدها بهجةً بالزَّائرين

هو الأمكنةُ التي تستيقظُ عند غروبِ الشمس

ولا تنامُ

حتى ترهقَها طرقاتُ النهار

هو السَّماءُ التي تلبسُ أساورَها

وتزغردُ حين توجِعُها دغدغةُ الرَّعدِ

هُوَ الليل

الذي كنتُ علي شوارعِه

أحْصِي قطراتِ الحكاياتِ التي سطَّرتْهَا أناملُ النَّدى

وعلى عتباتِه أتسوَّلُ الإجاباتِ

تتقطَّرُ من زهرةٍ تقطُنُ أشجارَ الصَّقيعِ الباردة.

 

هنا

على شارِعٍ لوَّنتْهُ الحماماتُ بضوءِ القمر

كتبتُ على ورقِ الليلِ

رسائلَ النَّهرِ إلى أعشابِه المهاجرة

الأعشابُ التي ظلَّتْ على حالِهَا تستقبِلُ النَّدى

وتخضرُّ على طُولِ المسافات.

 

الليلُ

كان رصيفًا طيبًا

بلَّلتهُ المياهُ بكُؤُوسِها الشفَّافةِ

فأزهرتْ نجْمَاتُهُ حدائقَ من تُوَيْجَاتِ الجنون

كان دفئًا صافيًا يترقرق من ينابيع الأنوثةِ في مُحيَّاها النبيل.

 

هو الليلُ وَحْده

يتغنّى بكمنجاتهِ على مسرح الكزنِ الفسيح.

                                                                                      أكتوبر2011